دستور تركيا الجديد- هل يمهد الطريق لولاية أردوغان أخرى؟

أثارت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، التي عبّر فيها عن أن الهدف من الدستور الجديد ليس خدمة مصالحه الشخصية وأنه لا يسعى للترشح مرة أخرى، جدلاً واسعاً. هذه التصريحات أدت إلى تكاثر التحليلات والتفسيرات، ورسم سيناريوهات مستقبلية، وأحدثت تحولاً مفاجئاً في مسار النقاشات السياسية في تركيا.
وعلى خلاف ما ذهب إليه بعض المحللين، فإن هذه التصريحات لا تُعبر بالضرورة عن رغبة حقيقية في عدم الترشح مجدداً، بل تؤكد الأهمية القصوى التي يوليها الرئيس أردوغان لعملية تعديل الدستور.
الحقيقة التي يعرفها الجميع في تركيا هي أن الرئيس أردوغان يعتزم الترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة، وهذا الأمر بات جزءاً أساسياً من المشهد السياسي.
لقد أصبح ترشح أردوغان، الذي يحكم تركيا منذ عقدين ونيف (12 عاماً رئيساً للوزراء و11 عاماً رئيساً للجمهورية)، موضوعاً لا يمكن فصله عن أي حديث أو نقاش يتعلق بالانتخابات العامة في البلاد.
منذ عام 2002 وحتى عام 2014، تولى أردوغان رئاسة الوزراء في ظل النظام البرلماني، ثم انتُخب رئيساً للجمهورية لأول مرة عام 2014 في ظل النظام نفسه. وفي عام 2018، شهدت تركيا تحولاً تاريخياً في نظامها السياسي، حيث انتقلت بموجب تعديلات دستورية إلى "نظام الحكم الرئاسي" المعمول به حالياً.
وفقاً للمادة 101 من الدستور المعدل، فإن شروط الترشح لمنصب رئيس الجمهورية تتلخص في: "أن يتم اختيار الرئيس من بين أعضاء البرلمان التركي ممّن هم فوق الأربعين عاماً، أو من بين المواطنين الأتراك الذين يستوفون شروط الترشح للنيابة، وأن يكونوا حاصلين على تعليم عالٍ. ويتم انتخاب الرئيس مباشرة من قبل الشعب، وتكون مدة ولايته خمس سنوات، ولا يجوز انتخاب الشخص نفسه رئيساً لأكثر من ولايتين متتاليتين".
كما تنص المادة ذاتها على أن الفوز في الانتخابات يتطلب حصول المرشح على الأغلبية المطلقة من الأصوات (50% + 1). وفي حال عدم تحقيق أي مرشح لهذه النسبة، تُعاد الانتخابات بعد أسبوعين بين المرشحين اللذين حصلا على أعلى عدد من الأصوات، والمرشح الذي يحقق الأغلبية في الجولة الثانية يُعلن فوزه بمنصب الرئيس.
بموجب هذا الدستور، تم توسيع صلاحيات الرئيس أردوغان، وأعيد انتخابه رئيساً للبلاد في انتخابات عام 2018 التي جرت على جولتين. ومن هنا بدأت التساؤلات القانونية: هل يحق للرئيس أردوغان، الذي انتُخب عامي 2014 و2018، الترشح لولاية ثالثة في انتخابات عام 2023، خاصة في ظل وجود المادة الدستورية التي تمنع الترشح لأكثر من ولايتين؟
لكن المجلس الأعلى للانتخابات (YSK) اعتبر أن شرط "الولايتين" بدأ العمل به مع تعديل الدستور في عام 2018، وبالتالي لا يوجد ما يمنع مشاركة أردوغان في انتخابات 2023. وهكذا، خاض الرئيس الانتخابات التي جرت جولتها الأولى في 14 مايو/ أيار وجولتها الثانية في 28 مايو/ أيار، وفاز بنسبة 52%، ليبدأ ولايته الثالثة من حيث الترتيب الزمني، ولكنها الولاية الثانية وفقاً للنظام الرئاسي الجديد. وبناءً على ذلك، سيستمر في مهامه حتى عام 2028، وبذلك يكون قد شغل منصب الرئاسة لمدة 14 عاماً عند نهاية ولايته الحالية.
إلا أن نقاشاً جديداً بدأ يظهر على الساحة السياسية: إذا كان الدستور لا يسمح بالترشح لأكثر من دورتين رئاسيتين، فهل سيكون بإمكان الرئيس أردوغان الترشح مرة أخرى في انتخابات عام 2028؟
وفقاً للدستور، هناك ثلاث طرق لإجراء الانتخابات: أولاً، في موعدها الدوري المحدد، وثانياً، إذا قرر البرلمان (TBMM) تقديم موعد الانتخابات، وثالثاً، إذا قرر الرئيس حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة. ولكن في حال قام الرئيس بحل البرلمان بنفسه، فإنه لا يحق له الترشح في الانتخابات الجديدة. وبالتالي، فإن الخيار الوحيد المتاح لتمكين الرئيس أردوغان من الترشح مجدداً هو أن يتخذ البرلمان قراراً بإجراء انتخابات مبكرة.
وبحسب المادة 116 من الدستور المعدل عام 2018، والتي تحمل عنوان "تبكير انتخابات مجلس الأمة التركي ورئاسة الجمهورية": "يجوز لمجلس الأمة التركي الكبير أن يقرر تبكير الانتخابات بأغلبية ثلاثة أخماس من إجمالي عدد أعضائه، وفي هذه الحالة تُجرى الانتخابات البرلمانية والرئاسية معاً. وإذا قرر الرئيس تبكير الانتخابات، تُجرى أيضاً انتخابات برلمانية ورئاسية معاً. وإذا قرر البرلمان تبكير الانتخابات في الولاية الثانية للرئيس، يجوز له الترشح مرة أخرى".
واستناداً إلى هذه المادة، لا يوجد ما يمنع الرئيس أردوغان من الترشح مجدداً إذا صوّت 360 نائباً من أصل 600 نائب في البرلمان لصالح قرار تجديد الانتخابات. وهنا تكمن جوهر الإشكالية.
إن عدد مقاعد حزب العدالة والتنمية (AK Parti) بزعامة الرئيس أردوغان، وشركائه في "تحالف الجمهور" (حزب الحركة القومية MHP، حزب الدعوة الحرة HÜDA PAR، والحزب اليساري الديمقراطي DSP) يبلغ 325 مقعداً فقط. وهذا يعني أن التحالف يحتاج إلى 35 صوتاً إضافياً لتمرير قرار "تجديد الانتخابات" الذي يتيح للرئيس أردوغان الترشح لولاية جديدة.
ومن بين السيناريوهات المحتملة، إمكانية "انتقال نواب" من كتل برلمانية أخرى. ففي انتخابات عام 2023، كان عدد نواب التحالف 321، ثم ارتفع لاحقاً إلى 325. وعلى الرغم من أن احتمالية انتقال 35 نائباً من كتل أخرى تبدو ضعيفة، إلا أنها ليست مستحيلة، خاصة في ظل التقارب الحاصل بين التحالف و"حزب الشعوب الديمقراطي" (DEM) الذي يمتلك 56 مقعداً في البرلمان.
وقد أعلنت المعارضة الرئيسية، ممثلة في حزب الشعب الجمهوري (CHP)، عن استعدادها لدعم قرار "تجديد الانتخابات"، شرط أن يتم إجراؤها في خريف عام 2025. وبالرغم من أن هذا الموقف قد يفتح الباب نظرياً أمام الرئيس أردوغان، إلا أن خطته الفعلية تبدو مختلفة.
وكما أشرنا في البداية، فالأمر لم يعد سراً: يطمح الرئيس أردوغان إلى إجراء انتخابات مبكرة بقرار من البرلمان في خريف عام 2027، ليتم إعادة انتخابه رئيساً للجمهورية حتى عام 2032.
وهذا التوجه لا يعكس فقط إرادة الرئيس أردوغان وحزبه، بل أيضاً طموحات حلفائه، وعلى رأسهم زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشلي، وكذلك حزبي HÜDA PAR وDSP. بالإضافة إلى ذلك، هناك قاعدة جماهيرية واسعة تدعم الرئيس أردوغان وتتطلع إلى إعادة انتخابه.
يحتاج الرئيس أردوغان إلى 35 صوتاً إضافياً فقط لتأمين قرار "تجديد الانتخابات" الذي يفتح له الباب للترشح مجدداً، وهو رقم قد يبدو بسيطاً من الناحية العددية، ولكنه يكتنفه الكثير من التحديات في ظل الظروف السياسية المعقدة التي تشهدها تركيا.
ومع ذلك، يبقى هذا السيناريو وارداً في ظل احتمال انضمام نواب من أحزاب أخرى، أو الحصول على دعم من حزب الشعوب الديمقراطي (DEM)، خاصة بعد أن قام 23 نائباً من الحزب بدعم انتخاب مرشح حزب العدالة والتنمية، نعمان قورتلموش، لرئاسة البرلمان بأغلبية 329 صوتاً، مما يشير إلى إمكانية دعمهم أيضاً لقرار "تجديد الانتخابات" في المستقبل.
كل هذه التطورات تعيد إلى الأذهان مقولة الرئيس التركي الراحل سليمان ديميريل: "أربع وعشرون ساعة في السياسة تعتبر وقتاً طويلاً جداً". فما يزال أمام تركيا متسع من الوقت حتى موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، وقد تشهد الساحة السياسية تحولات جذرية تدفع حتى الأحزاب المعارضة إلى دعم ترشح الرئيس أردوغان لولاية ثالثة، إذا ما تهيأت الظروف المناسبة لذلك.